فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه أشبه بأن تعدّ في أسباب الكمال ولكنها مكمّلات للكمال الإنساني لأنها آلات لإنقاذ المقاصد السامية عند أهل العقول الراجحة والحكمة الإلهية كالأنبياء والملوك الصالحين، وبدون ذلك تكون آلات لإنفاذ المقاصد السيّئة مثل شجاعة أهل الحرابة وقطّاع الطريق والشّطّار، ومثل القوة على خلع الأبواب لاقتحام منازل الآمنين.
وإنما الكمال الحق هو زكاء النفس واستقامة العقل، فهما السبب المطّرد لإيصال المنافع العامة لما في هذا العالم، ولهما تكون القوى المنفّذة خادمة كالشجاعة للمدافعين عن الحق والملجئين للطغاة على الخنوع إلى الدّين، على أن ذلك معرض للخطأ وغيبة الصواب فلا يكون له العصمة من ذلك إلاّ إذا كان محفوفًا بالإرشاد الإلهي المعصوم، وهو مقام النبوءة والرسالة.
فهؤلاء الكفرة من قوم نوح لمّا قَصروا عن إدراك أسباب الكمال وتطلبوا الأسباب من غير مكانها نظروا نوحًا عليه السلام وأتباعه فلم يروه من جنس غير البشر، وتأمّلوه وأتباعه فلم يروا في أجسامهم ما يميّزهم عن الناس وربّما كان في عموم الأمة من هم أجمل وجوهًا أو أطول أجسامًا.
من أجل ذلك أخطأوا الاستدلال فقالوا: {ما نراك إلاّ بشرًا مثلنا} فأسندوا الاستدلال إلى الرؤية.
والرؤية هنا رؤية العين لأنّهم جعلوا استدلالهم ضروريًا من المحسوس من أحوال الأجسام، أي ما نراك غير إنسان، وهو مماثل للنّاس لا يزيد عليهم جوارح أو قوائم زائدة.
والبشَر محركة: الإنسان ذكرًا أو أنثى، واحدًا كان أو جمعًا.
قال الراغب: عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارًا بظهور بشرته وهي جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف والشعر والوبر أي والريش. والبشر مرادف الإنسان فيطلق كما يطلق الإنسان على الواحد والأكثر، والمؤنث والمذكر.
وقد يثنى كما في قوله تعالى: {أنؤمن لبشرين مثلنا} [المؤمنون: 47].
وقالوا: {وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا} فجعلوا أتباع الناس المعدودين في عادتهم أراذل محقورين دليلًا على أنه لا ميزة له على سادتهم الذين يلوذ بهم أشراف القوم وأقوياؤهم.
فنفوا عنه سبب السيادة من جهتي ذاته وأتباعه، وذلك تعريض بأنهم لا يتبعونه لأنهم يترفعون عن مخالطة أمثالهم وأنه لو أبعدهم عنه لاتبَعوه، ولذلك ورد بعده: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} [هود: 29] الآية.
والأرذال: جمع أرذل المجعول اسمًا غير صفة كذلك على القياس، أو جمع رذيل على خلاف القياس.
والرذيل: المحتقر.
وأرادوا أنهم من لفيف القوم غير سادة ولا أثرياء.
وإضافة (أراذل) إلى ضمير جماعة المتكلمين لتعيين القبيلة، أي أراذل قومنا.
وعبّر عنهم بالموصول والصّلة دون أن يقال: إلا أراذلنا لحكاية أن في كلام الذين كفروا إيماء إلى شهرة أتباع نوح عليه السلام بين قومهم بوصف الرذالة والحقارة، وكان أتباع نوح عليه السلام من ضعفاء القوم ولكنهم من أزكياء النفوس ممّن سبق لهم الهدى.
و: {بادي} قرأه الجمهور بياء تحتية في آخره على أنه مشتق من بدَا المقصور إذا ظهر، وألفهُ منقلبة عن الواو لما تحركت وانفتح ما قبلها، فلما صيغ منه وزن فاعل وقعت الواو متطرفة إثر كسرة فقلبت ياء.
والمعنى فيما يبدو لهم من الرأي دون بحث عن خفاياه ودقائقه. وقرأه أبو عَمرو وحده بهمزة في آخره على أنه مشتق من البداء، وهو أول الشيء. والمعنى: فيما يقع أول الرأي، أي دون إعادة النظر لمعرفة الحق من التمويه، ومآل المعنيين واحد. والرأي: نظر العقل، مشتق من فعل رأى، كما استعمل رأى بمعنى ظن وعلم.
يعنون أن هؤلاء قد غرتهم دعوتك فتسرعوا إلى متابعتك ولو أعادوا النظر والتأمل لعلموا أنك لا تستحق أن تتبع. وانتصاب: {بادى الرأي} بالنيابة عن الظرف، أي في وقت الرأي دون بحث عن خفيّه، أو في الرأي الأول دون إعادة نظر.
وإضافة: {بادى} إلى: {الرأي} من إضافة الصفة إلى الموصوف، ومعنى كلامهم: لا يلبث أن يرجع إلى متبعيك رُشدُهم فيعيدوا التأمل في وقت آخر ويُكشف لهم خَطؤُهم.
ولما وصفوا كل فريق من التابع والمتبوع بما ينفي سيادة المتبوع وتزكية التابع جَمَعوا الوصف الشامل لهما.
وهو المقصود من الوصفين المفرقين.
وذلك قولهم: {وما نَرى لكم علينا من فضل} فنفوا أن يكون لنوح عليه السّلام وأتباعه فضل على الذين لم يؤمنوا به حتى يكون نوح عليه السلام سيّدًا لهم ويكون أتباعه مفضلين بسيادة متبوعهم.
والفضل: الزيادة في الشرف والكمال، والمراد هنا آثاره وعلاماته لأنها التي تُرى، فجعلوا عدم ظهور فضل لهم عليهم دليلًا على انتفاء فضلهم، لأنّ الشيء الذي لا تخفى آثاره يصح أن يجعل انتفاء رؤيتِها دليلًا على انتفائها إذ لو ثبتت لرئَيت.
وجملة: {بل نظنّكم كاذبين} إبطال للمنفي كلّه الدال على صدقه في دعواه بإثبات ضد المنفي، وهو ظنهم إياهم كاذبين لأنّه إذا بطل الشيء ثبت ضدّه، فزعموا نوحًا عليه السلام كاذبًا في دعوى الرسالة وأتباعه كاذبين في دعوى حصول اليقين بصدق نوح عليه السّلام، بل ذلك منهم اعتقاد باطل، وهذا الظن الذي زعموه مستند إلى الدليل المحسوس في اعتقادهم.
واستعمل الظن هنا في العلم كقوله: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46] وهو إطلاق شائع في الكلام. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي} الآية.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الملأ من قوم نوح قالوا له: ما نراك اتبعك منا إلا الأسافل والأراذل. وذكر في سورة الشعراء، أن اتباع الأراذل له في زعمهم مانع لهم من اتباعه بقوله: {قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111].
وبين في هذه السورة الكريمة: أن نوحًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أبى أن يطرد أولئك المؤمنين الذين اتبعوه بقوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ولكني أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ} [هود: 29- 30]. وذكر تعالى عنه ذلك في الشعراء أيضًا بقوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} [الشعراء: 113- 114]. اهـ.

.قال الشعراوي:

وبعد أن بيَّن الحق سبحانه وَصْفَ كل طرف وصراعه مع الآخر، واختلاف كل منهما في الغاية، والصراع الذي بينهما تشرحه قصص الرسل عليهم السلام.
ويقول الحق سبحانه في بعض من مواضع القرآن الكريم، وفي كل موضع لقطات من قصة أي رسول، واللقطة التي توجد في سورة قد تختلف عن اللقطة التي في سورة أخرى.
ومثال ذلك: أن الحق سبحانه قد تكلم في سورة يونس عن نوح وموسى وهارون ويونس عليهم السلام، وهنا في سورة هود تأتي مرة أخرى قصة نوح عليه السلام، فيقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ}
والآية توضِّح مسألة إرسال نوح عليه السلام كرسول لقومه، وعلى نوح الرسول أن يمارس مهمته وهي البلاغ، فيقول: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [هود: 25].
ونحن نلحظ أن همزة (إن) في إحدى قِرَاءَتَى الآية تكون مكسورة، وفي قراءة أخرى تكون مفتوحة، أما في القراءة بالكسر فتعني أن نوحًا عليه السلام قد جاء بالرسالة فبلغ قومه وقال: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [هود: 25].
وأما في القراءة الأخرى بالفتح فتعني أن الرسالة هي: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [هود: 25].
فكأن القراءة الأولى تعني الرواية عن قصة البلاغ، والقراءة الثانية تحدد مضمون الرسالة: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [هود: 25].
والقراءة الأولى فيها حذف القول، وحذف القول كثير في القرآن، مثل قوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23- 24].
وهذا يعني أن الملائكة يدخلون على المؤمنين في الجنة من كل باب، وساعة الدخول يقول الملائكة: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24].
وقول نحو عليه السلام: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [هود: 25].
نعلم منه أن النذير كما قلنا من قبل هو من يخبر بشرٍّ لم يأت وقته بعد، حتى يستعد السامع لملاقاته، وما دام أن نبي الله نوحًا قد جاء نذيرًا، فالسياق مستمر؛ لأن الحق سبحانه قال في الآية التي قبلها: {مَثَلُ الفريقين} [هود: 24].
أي: أن هناك فريقًا عاصيًا وكافرًا وله نذير، أما الفريق الآخر فله بشير، يخبر بخير قادم ليستعد السامع أيضًا لاستقباله بنفس مطمئنة.
والفريق الكافر الذي يستحق الإنذار، يأتي لهم الحق سبحانه بنص الإنذار في قوله تعالى: {أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله}
ونحن نعلم أن نوحًا عليه السلام محسوب على قومه، وهم محسوبون عليه؛ ولذلك نجده خائفًا عليهم؛ لأن الرباط الذي يربطه بهم رباط جامع قوي.
وكذلك نجد الحق سبحانه يُحنِّن قلوب الرسل إليهم لعلهم يحسنون استقبال الرسول.
ومثال ذلك: قول الحق سبحانه: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65].
ولأن الرسول أخ لهم فلن يغشَّهم أو يخدعهم.
واستقبل الملأ من قوم نوح الأمر بما يقول الحق سبحانه عنهم: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ}
والملأ كما نعلم هم وجوه القوم، وهم السادة الذين يملأون العيون مهابة، ويتصدرون أي مجلس.
وهناك مثل شعبي في بلادنا يوضح ذلك المعنى حين نقول: فلان يملأ العين. أي: أن العين حين تنظر إليه لا تكون فارغة، فلا جزء في العين يرى غيره. ويقال أيضًا: فلان قَيْد النواظر أي: أنه إذا ظهر تقيَّدت به كل النواظر، فلا تلتفت إلى سواه، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كانت فيه مزايا تجذب العيون إليه بحيث لا تتحول عنه.
والمراد بذلك هو الحاشية المقربة، أو الدائرة الأولى التي حول المركز، فَحَوْل كل مركز هناك دوائر، والملأ هم الدائرة الأولى، ثم تليهم دائرة ثانية، ثم ثالثة وهكذا، والارتباك إنما ينشأ حين يكون للدائرة أكثر من مركز، فتتشتت الدوائر.
وردَّ الذين يكوِّنون الملأ على سيدنا نوح قائلين: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا} [هود: 27].
أي: أنه لا توجد لك ميزة تجعلك متفوقًا علينا، فما الذي سوَّدك علينا لتكون أنت الرسول؟
وقولهم هذا دليل غباء؛ لأن الرسول ما دام قد جاء من البشر، فسلوكه يكون أسوة، وقوله يصلح للاتباع، ولو كان الرسول من غيرِ البشر لكان من حق القوم أن يعترضوا؛ لأنهم لن يستطيعوا اتخاذ الملاك أسوة لهم.
ولذلك بيَّن الحق سبحانه هذه المسألة في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94].
وجاء الرد منه سبحانه بأن قُلْ لهم: {لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء: 95].
إذن: فالرسول إنما يجيء مُبلِّغ منهج وأسوة سلوك، فإذا لم يكن من جنس البشر، فالأسوة لن تصلح، ولن يستطيع إلا البلاغ فقط.
ومثال ذلك: أنت حين ترى الأسد في أي حديقة من حدائق الحيوان، يصول ويجول، ويأكل اللحم النَّيء المقدم له من الحارس، أتحدثك نفسك أن تفعل مثله؟.. طبعًا لا، لكنك إن رأيت فارسًا على جواد ومعه سيفه، فنفسك قد تحدثك أن تكون مثله.
وهكذا نجد أن الأسوة تتطلب اتحاد الجنس؛ ولذلك قلنا: إن الأسوة هي الدليل على إبطال من يدَّعي الألوهية لعزير أو لعيسى عليهما السلام.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان الملأ الكافر من قوم نوح: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27].
والأراذل جمع أرذل، مثل قولنا: أفاضل قوم، وهي جمع أفضل.
والأرذل هو الخسيس الدنيء في أعين الناس. ورذال المال أي: رديئه. ورذال كل شيء هو نفايته.
ونرى في الريف أثناء مواسم جمع القطن عملية فرز القطن، يقوم بها صغار البنين والبنات، فيفصلون القطن النظيف، عن اللوز الذي لم يتفتح بالشكل المناسب؛ لأن اللوزة المصابة عادة ما تعاني من ضمور، ولم تنضج النضج الصحيح.
وكذلك يفعل الفلاحون في موسم جمع البلح، فيفصلون البلح الجيد عن البلح المعيب.
إذن: فرذال كل شيء هو نفايته.
وقد قال الملأ من الكفار من قوم نوح: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27].
أي: أنهم وصفوا من آمنوا بنوح عليه السلام بأنهم نفاية المجتمع.
وجاء الحق على ألسنتهم بقولهم في موضع آخر: {واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111].
ولم يَنْفِ نوح عليه السلام ذلك؛ لأن الذين اتبعوه قد يكونون من الضعاف، وهَم ضحايا الإفساد؛ لأن القوى في المجتمع لا يقربه أحد؛ ولذلك فإنه لا يعاني من ضغوط المفسدين، أما الضعاف فهم الذين يعانون من المفسدين؛ فما إن يظهر المُخلِّص لهم من المفسدين فلابد أن يتمسكوا به.
ولكن ذلك لا يعني أن الإيمان لا يلمس قلوب الأقوياء، بدليل أن البعض من سادة وأغنياء مكة استجابوا للدعوة المحمدية مثل: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم.
ولكن الغالب في دعوات الإصلاح أنه يستجيب لها المطحونون بالفساد، هؤلاء الذين يشعرون بالغليان في مراجل الألم بسبب الفساد، وما إن يظهر داعية الإصلاح ويريد أن يزحزح الفساد، فيلتفُّون حوله ويتعاطفون معه، وإن كانوا غير عبيد، لكن محكومين بالغير، فهم يؤمنون علنًا برجل الإصلاح، وإن كانوا عبيدًا مملوكين للسادة؛ فهم يؤمنون خفية، ويتحمل القوي منهم الاضطهاد والتعذيب.
إذن: فكل رسول يأتي إنما يأتي في زمن فساد، وهذا الفساد ينتفع به بعض الناس؛ وطغيان يعاني منه الكثيرون الواقع عليهم الفساد والطغيان.
ويأتي الرسول وكأنه ثورة على الطغيان والفساد؛ لذلك يتمسك به الضعفاء ويفرحون به، وتلتف قلوبهم حوله.
أما المنتفعون بالفساد فيقولون: إن أتباعك هم أراذلنا. وكأن هذا القول طَعْن في الرسول، لكنهم أغبياء؛ لأن هذا القول دليل على ضرورة مجيء الرسول؛ ليخلص هؤلاء الضعاف، ويجيء الرسول ليقود غضبة على فساد الأرض، ولينهي هذا الفساد.
وهي غضبة تختلف عن غضبة الثائر العادي من الناس، فالثائر من الناس يرى من يصفق له من المطحونين بالفساد.
لكن آفة الثائر من البشر شيء واحد، هي أنه يريد أن يستمر ثائرًا، ولكن الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد، فلا يسلط السيف على الكل، ولا يفضِّل قومًا على قوم، ولا يدلل مَنْ طُغِي عليهم، ويظلم مَنْ طغوا.